الثوب الفلسطيني ربط الحجر بالبشر، وبكل تفاصيله ينقل حكاية وطن في كل قرية ومدينة، فهو فلكلور شعبي فلسطيني يعبر عن الهوية الفلسطينية ويحافظ عليها من الضياع والنسيان، وهو كنعاني الأصل، إذ برع الكنعانيون قديما في دباغة الأنسجة القطنية والصوفية، بما فيها الأثواب التي حافظت على شكلها الكنعاني إلى يومنا هذا.
طرز ليروي أصل الحكاية, ويثبت للعالم هوية هذه الأرض, فمن كل قرية ومدينة٫ خرجت قصة من وحى سكانها والبيئة من حولهم, قصة ترويها الجدات والأمهات بأناملهن الحنونة, لينتجن لوحة فنية تتباهى به المرأة الفلسطيني٫ وترتديه في المناسبات الوطنية والاجتماعية٫ وتقتنيه المرأة الفلسطينية على اعتباره موروثا ثقافيا يشكل نتاجا حضاريا عبر آلاف السنين٫ وقد تطور هذا الإرث ليواكب الحياة المعاصرة, ويحتفظ بلمسات الأصالة في الفكرة, ليبقى الثوب الفلسطيني الى يومنا هذا قطعة نفيسة تفخر به المرأة الفلسطينية, وترغب في اقتنائه.
إنه الثوب الفلسطيني الأصيل، بخيوطه التي تحكي حكاية الوطن، وبألوانه التي تروي قصص القرى والمدن في أنحاء فلسطين، نقوش عتيقة ترسم لوحة الحلم الأثير..حلم العودة.
ثوبي كرامتي
الحاجة أم جواد أبو سلمية، أم الشهيد الصابرة، عرفت بتمسكها بالثوب الفلسطيني واشتهرت بلباسها الأصيل، تقول:” الثوب الذي أرتديه اسمه “جنة ونار” هذا الثوب هو ثوب أمي و ستي وهذا ما سأتركه لحفيداتي من بعدي، هذا هو رمز كرامتي وعزتي ووطنيتي” وأضافت بعد أن تغيرت نبرة صوتها بحدة : “هذا لباسنا نحن بنات فلسطين، ومن غير لبسه غير جنسه”.
عنواناً للكمال والستر
أما الحاجة رويده الباشا فتقول “ثوبي هذا طرزته بيدي ولن أغيره حتى أموت، حاول بناتي إقناعي بتغييره لكني رفضت ذلك”. وتعتبر الحاجه رويده الثوب الفلسطيني أكمل لها و أستر حيث تقول: ” أنا عجوز والثوب على جسمي أكمل لي وأستر من الجلباب”.
وهذا ما أكدته الحاجة أم عادل الشيخ علي حيث أنها تعتبر الثوب الفلسطيني مثل الجلباب يسترها و يناسب سنها و يليق بجسمها أكثر من أي شيء آخر، وتقول:” لقد تعودت على ثوبي هذا ولا يمكن أن أغيره، أرتديه وأرتدي معه الشاشة البيضاء لتغطي كتفي وألف جزء منها على وجهي، هكذا كان حجابنا وتمسكنا به”.
تقول مها السقا، مديرة مركز التراث الفلسطيني، إن الثوب الفلسطيني جزء لا يتجزأ من تراثنا وهويتنا الفلسطينية، وهو وثيقة هويتنا الخالدة لوجودنا، مؤكدة أن قضيتنا ارتبطت بكل ما يحيط بنا من تراث وتاريخ، مشيرة إلى مزايا بعض الأثواب الفلسطينية، ومن ضمنها الثوب المختص بمدينة أريحا، والذي يعد من أقدم الأثواب الفلسطينية، حيث عرفه الكنعانيين قبل (5) آلاف عام، أي نصف عمر المدينة، التي تعد من أقدم المدن، حيث يبلغ عمرها ما يقارب ااـ(10) آلاف عام.
ويمتاز هذا الثوب بالخطوط الطولية والزخارف التي تدل على أهم الآثار الحفرية القديمة في المدينة، إذ كانت النساء ترتدي هذا الزي عند تقديم الهدايا للفراعنة، وفي أهم المناسبات.
تاريخ وطن
أم جمال عابد عمرها 78 عاماً تقول:”خرجت من بلدي وعمري 4 سنوات كنت أرى أمي ترتدي هذا الثوب و ارتديته أنا أيضاً، فهو بالنسبة لي تاريخي وقصة رحيلي من بلدي، هو تاريخ فلسطين وقطعة من آثارها أنا وأولادي وأولاد أولادي لن نبدل زينا وثوبنا الفلسطيني، هذا قطعة مني ومن كياني لا يقدر بثمن”.
تشاركها الرأي الحاجة لمياء شلوف من قرية حمامة، حيث تقول أنها خرجت وعمرها أربع سنوات كانت ترى النساء يرتدين هذا الثوب فصار لباسها، تقول:”الثوب الفلسطيني هو لباسنا وتراثنا وآثارنا وتاريخنا الذي نحتفظ به وندافع عنه، عندما تزوجت كانت كل كسوتي ولباسي من الأثواب الفلسطينية المطرزة باليد، لذلك أفضل الاحتفاظ به كرمز لي، وخبأت بعضاً من أثوابي لمن بعدي”.
لكل مدينة ثوب
والأثواب الفلسطينية متشابهة في مظهرها العام , ولكن كل مدينة لها ثوبها الذي يميزها , سواء بلون القماش ونوعيته, أو الغرز المستخدمة في التطريز وألوانها وأنواعها وأماكن التطريز في الثوب, إلا أن السمات العامة تظل كما هي, وبالتالي يحتفظ الثوب بطابعه الفلسطيني الخاص, المعبر عن تاريخ الشعب ومراحل حياته السياسية والاجتماعية ويشرح عن هذا الاختلاف الأستاذ معتصم عدوان قائلا : اشتهرت مدينة الخليل بالثوب القروى المنسوج يدويا بالنول الذي يصبغ بالنيلة الزرقاء, حيث كان القرويون يأتون المدينة للتسوق وشراء الأقمشة من سوق الجمعة, وقد اشتهرت قرى الخليل بكثافة التطريز على الأثواب, وكثرة ألوان التطريز, وتعدد رسوماته, أما ثوب يافا فهو غاية في الإتقان والأناقة, حيث نلاحظ وحداته الزخرفية محاطة برسومات شجر السرو , التي تحيط بيارات البرتقال , ويشتهر الثوب المجدلاوى انه مصنوع من القماش الأبيض ذو فتحة كبيرة عند منطقة الصدر المزخرفة بنقوش ونقلات على أشكال مختلفة من خيوط الحرير الملونة, ويتميز هذا الثوب بان طرفه السفلى له تعرجات تشبه المثلثات, تتواصل على ذيل الثوب كاملا بشكل جميل ورائع , ويشتهر الثوب الغزاوى برسوماته التطريزية المميزة , والوحدات الهندسية الكبيرة, أما الثوب المقدسي والذي يرتديه سكان القدس وضواحيها من القرى , يميزه اللون الأحمر القاني , وأحيانا يصنع من اللون الأصفر المائل الى الكموني . ويحمل الثوب مطرزات على شكل زهور بمختلف الألوان, أما نسوة بئر السبع فهن نساجات ماهرات, يغزلن الصوف ويلونه ويحكنه وتخاط أثواب نساء القبيلة من القماش الأسود, وهو اعرض بكثير من أثواب المناطق الأخرى , ويزين القسم الأسفل من واجهته الأمامية بالتطريز الفلاحي , ولون التطريز يعكس الحالة الاجتماعية للمرأة, فالعروس البكر تزين ثوبها باللون الأحمر, والأرملة تزين ثوبها باللون الأزرق, ومن مميزات الثوب السبعاوي الحاشية العريضة لأسفل الثوب, المحلاة بغرزه المد من اللونين الأزرق والأحمر.
هدية قيمة
الحاجة أم خالد من بئر السبع عمرها 82 عاماً تعتبر الثوب أغلى من الذهب حيث يعد هدية قيمة تهدى لمن تحب، تقول:”ثوبي الذي أرتديه له العديد من الكماليات مثل الحزام و البنيقة والسيوف والقمرية والمغار، وصدره مطرز بالورد الأحمر والورق الأخضر تطريز يدوي غالي، هذا الثوب ثمين وهو أجمل هدية أقدمها للناس الغاليين علي، هو أغلى من الذهب”.
وتقول الأستاذة رائدة مطاوع أن يافا اشتهرت ببيارات البرتقال التي تحيط بها أشجار السرو الخضراء، تميزت أثوابها بالزخارف التي تشير إلى البرتقال وأشجار السرو، مدموجة بين ألوان البرتقالي بالوسط، المحاط باللون الأخضر، أما ثوب بئر السبع فهو يعبر عن الحالة الاجتماعية للمرأة المتزوجة هناك، حيث ترتدى الثوب المطرز باللون الأحمر، وفي حال توفي زوجها، ترتدي الثوب المطرز باللون الأزرق، وإذا تزوجت المرأة مرة أخرى، تمزج ألوان ثوبها بالأزرق المدموج بتطاريز زهور وألوان مختلفة.
وتشير إلى أن زيادة الاهتمام بالثوب الفلسطيني ظهر في بداية الانتفاضة الأولى، إذ وجد فيه الفلسطينيون سلاح يدافعون به عن تاريخهم وحضارتهم”، وتضيف: “علينا أن نمارس التراث ونحيه بداخلنا حتى يبقى ملكا لنا، فالتراث هو كل ما تركه لنا الأجداد من ثروة، وكما قيل: (أمة بلا تراث.. أمة بلا مستقبل) والثوب هو من أهم ما تركته الأجيال السابقة لنا، وهو ما يرسم الصورة الكاملة والدقيقة للوطن، وتراكم تراثه حضارته، لافتة إلى أن الشعب الفلسطيني الذي راكم هذه الحضارة الذي امتدت لآلاف السنين، يحق له وبكل جدارة أن يعلن انتماءه لهذا الوطن، وما الثوب الفلسطيني إلا وثيقة امتلاك لهذه الأرض عبر التاريخ.
وتقول السيدة أم طارق رجب أن معرفة التراث ونشره وممارسته هو جزء من الالتزام الوطني، حيث يعمل على وحدة أبناء الوطن الواحد، مشيرة إلى أن المرأة الفلسطينية حافظت على ارتداء الثوب الفلسطيني إلى يومنا هذا، ففي كل المناسبات كالحناء والعرس، وفي الاحتفالات الوطنية، وعند استقبال الشخصيات المهمة، وفي مقدمة فرق الكشافة، يظهر الثوب الفلسطيني بوضوح، حتى أصبح ارتداءه متداولا باستمرار في الوطن والشتات، مؤكدة انه بكثرة تداوله، عمل على قهر الاحتلال الذي لم يستطع محو الأصول الكنعانية الثابتة والمتجذرة في الشعب الفلسطيني.
مقاومة
أما أم محمد يونس من الجورة عسقلان 76 عاماً فتعتبر ثوبها قصة مقاومة ونضال وثبات، ورمزاً شامخاً للعودة، تقول:” كما أذكر بلدي التي خرجت منها ومعي طفلي كان عمره أربعة أشهر كنا في بلدنا بخير وأمان ننعم بمالنا وخيرنا وحلالنا، جاء اليهود وأخرجونا وقلنا يومين أو ثلاثة وسنرجع، لكن لو كنا ندري أننا سنبقى طول العمر لفضلنا الموت ببلادنا على الخروج منها، مشينا على أقدامنا وتحملنا مرارة الحرب، تطوقنا النار من جميع الجهات، فإنني بعد كل هذا الذي رأيته أعتبر أن ثوبي هذا هو نضالي ومقاومتي، أنا لا أحمل السلاح، عندما أرتدي ثوبي الذي يربطني ببلدي فإنني أجاهد و أتمسك بحقي في العودة، هذا هو قيمتنا و هذا هو عنوان قضيتنا”.
بين الأصالة والمعاصرة
وعن دمج أصالة هذا الثوب بالحداثة والمعاصرة توضح السيدة أسماء طه قائلة : أن الثوب الفلسطيني بقيمته المعنوية والمادية , لباس يصلح لكل زمان , حيث ترتديه النساء تفاخرا وتباهيا في المناسبات الاجتماعية , وتعده فلكورا شعبيا ترتديه في المناسبات الوطنية والرسمية , وبإضافة لمسات من الحداثة استطعنا أن نطور هذا الموروث بدمج نقلات التطريز القديمة مع النقلات الحديثة , واستخدام الخرز وإدخال الكروشيه والشيفون لإضفاء لمسة عصرية على أقمشة الأثواب , وموديل الثوب نفسه تم تطويره بابتكار قصات جديدة عند الخصر والقبه وفى الأكمام والذيل حتى بات تحفة أصيلة محدثة , ترغب في ارتدائه صبايا هذه الأيام .ويختلف اهتمام الفلسطينيين بأشكال الثوب، فيظهر الزى البدوي والثوب الرهباني، وتتنوع الأثواب باختلاف المنطقة ما بين الثوب المجدلاوي والشوقي والمقلم والتوبيت السبعاوي والتلحمي والدجاني وثوب الزم وأم العروق والاخصاري والملس القدسي وثوب الجلاية وثوب الجنة والنار.
فلسطين – عبدالله عمر
0 تعليقات